قال: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه".
ثم بدأ شيخ الإسلام في تفصيل موضوع العقوبة، قال: "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة -أننا لا نشهد بالجنة أو النار- لا يمنع أن نؤاخذه في الدنيا وأن نعاقبه لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
إذاً: نحن نعاقب المبتدع لنمنعه عن بدعته؛ وذلك لأننا نفرق بين وقوع العقوبة وبين ارتباط ذلك بصلاح الإنسان أو فساده، وأنه غير مقبول عند الله، أو بمعنى آخر: نفرق بين وقوع العقوبة في الدنيا ووقوعها في الآخرة، أما في الآخرة، فهو تبارك وتعالى الذي يتولى الجزاء، ولا ارتباط بين هذا وذاك.
يقول: "ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل: قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة".
هناك فرق بين قتال الخوارج وقطاع الطرق وبين قتال المتأولين؛ فـالخوارج يُقَاتَلُون لأنهم على البدعة، وقطاع الطريق الذين يسمون المحاربين يُقَاتَلُون لأنهم مفسدون في الأرض؛ أخذاً من قوله تعالى: ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا))[المائدة:33].
أما المتأول، فهو الذي يظن أنه على الحق، واجتهاده أدى به إلى أن هذا هو الحق، فخرج به على جماعة المسلمين بأحد المعنيين؛ إما على الجماعة بمعنى الحق، أو على الجماعة بمعنى الإمام وأهل الحل والعقد الذين معه، فهذا اجتهاده، وقد يكون معذوراً؛ لكنه يقاتل حتى لا ينتشر خطؤه ولو أن أحداً استحل شيئاً مما حرم الله، أو ابتدع شيئاً في الدين، وإن كان يريد الحق، ولكنه لم يفهم الأدلة، وتأولها على غير وجهها ولم يقصد إلا الخير، لكنه أخطأ، فإذا تركناه تديَّن الناس بما هو عليه من الخطأ، ومن البدعة والضلال، وإن قاتلناه، قالوا: كيف تقاتلونه وهذا اجتهاده وهو عند الله معذور؟! فنقول: حكمه في الآخرة شيء آخر، أما في الدنيا فإننا نقاتله؛ لأن هناك فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وأوضح مثال على ذلك ما أورده شيخ الإسلام في قوله: "ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك والغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له}، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً، مع العلم بأنه باقٍ على العدالة".
يعني: إذا قال شارب النبيذ: أنا على مذهب أهل العراق، والنبيذ عندي جائز، نقول: نحن بالنسبة لمذهبنا -وهو الراجح وعليه السلف - نجلد في شرب النبيذ، لكننا لا نحكم على شارب النبيذ بأنه منزوع العدالة كشارب الخمر؛ لأنه ما شربها لهوى أو لشهوة؛ إنما اتبع مذهبه، لكن لأننا نرى أن هذا المذهب مرجوح؛ لا نقول له: اشرب كما تريد؛ لأنه لو فعل ذلك وأقر عليه، لشرب الناس الخمر باسم النبيذ؛ ولذلك فإننا نمنعه ونعاقبه ونقول: هو غير آثم إذا كان هذا اجتهاده .. ونحن حين نعاقبه لا يلزم من معاقبتنا له أنه آثم، كما لا يلزم عكس ذلك.
يقول: "بخلاف من لا تأويل له" هذا سيأتي شرحه إن شاء الله.
يقول: "وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة"، وهذا حاصل، كحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا يحلفون بالله أنهم كانوا من المعذورين في غزوة تبوك، ليرضى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:((يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ))[التوبة:96] وقال تعالى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ))[النور:53] يحلفون ويقسمون الأيمان للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجت مرة أخرى لنجاهدن معك ((قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ))[النور:53] أي أنه قد عرف من شأنهم أنهم في كل مرة يحلفون ويكذبون، والله تعالى يطلع المؤمنين على أحوالهم من عنده، وأيضاً المؤمنون يعرفونهم بلحن القول.
فكثير من الناس تعلم أنه منافق، ورغم ذلك لا تقدر أن تعاقبه بشيء في الدنيا.
ومع أنك قد اجتمعت لديك قرائن وأدلة معينة تجعلك تعتقد أنه منافق، إلا أنك تكل أمره إلى الله.
وكحال المنافقين -في كف العقوبة عنهم في الدنيا مع اعتقاد أنهم معاقبون في الآخرة- حال أهل الذمة، من النصارى الذين يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويذهبون إلى الكنائس، ولا يؤمنون بالقرآن، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويشربون الخمر، ويأكلون الخنزير؛ يقترفون كل هذه الأمور؛ ومع ذلك فإن الله أمرنا أن نقرهم على دينهم بالشروط العمرية، وهي شروط أهل الذمة.
فنحن نعلم أنهم على الكفر، وأنهم لا يحلون ما أحل الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويعتقدون هذا الكفر، ومع ذلك نقرهم؛ فهناك فرق بين أحكام الدنيا وبين أحكام الآخرة؛ نقرهم في الدنيا ونحن نعلم ونعتقد أنهم معاقبون عند الله على هذا الكفر، وأن مصيرهم ومآلهم إلى النار.
يقول رحمه الله: "وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة".
السبب في كف العقوبات عن أهل الذمة وعن المنافقين وإجرائها على التائبين والمتأولين أن الجزاء الحقيقي يكون في الدار الآخرة، فنحن إنما أمرنا أن نقيم حدود الله بما استطعنا.
يقول: "التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا، فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان".
ولذلك لم تكن غاية قتالنا لهم أن يؤمنوا بقلوبهم، فنحن لن نعلم ذلك؛ وإنما غاية قتالنا لهم ألا يفتن مؤمن؛ كما قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ))[البقرة:193] فبعد ذلك: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ))[البقرة:256].
فنحن نقاتل حتى يعلم الناس الحق، وحتى يصل إليهم الحق، وحتى لا يوجد في الدنيا من يفتن الناس عن الحق بالشبهات أو الشهوات.